فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)}.
افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلق بـ فعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب، فكأنه قيل: قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه.
ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمَللِ الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلامًا بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خيْر الدنيا، ويتضمن بشارة برضي الله عنهم ووعدًا بأن الله مكمل لهم ما يتطلبونه من خير.
وأكد هذا الخبر بحرف قد الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد، فحرف قد في الجملة الفعلية يفيد مفاد إنّ واللام في الجملة الاسميَّة، أي يفيد توكيدًا قويًّا.
ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء فلاحِهم كالذي في قوله: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77]، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم، بلْهَ أن يعرفوا اقتراب ذلك؛ فلما أخبروا بأن ما ترجَّوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق.
فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله، ولعل منه: قد قامت الصلاة، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرِحْنَا بها يا بلال» وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان. وحُذِف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحًا كاملًا. والفلاح: الظفَر بالمطلوب من عمل العامل، وقد تقدم في أول البقرة.
ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه.
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}.
إجراء الصفات على {المؤمنون} [المؤمنون: 1] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلتِهِ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم.
وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلاّ بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبىء عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سببًا للفلاح، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فَي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِم المسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْممِ الدّينِ} [المدثر: 42- 46] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور.
والخشوع تقدم في قوله تعالى: {وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ} في سورة البقرة (45) وفي قوله: {وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} في سورة الأنبياء (90).
وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه، ولا شك أن الخشوع، أي الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح.
وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها، إذ الخشوع محلّهُ القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته.
وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له.
وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها.
ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل مواليًا للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين.
وتقديمُ {في صلاتهم} على {خاشعون} للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقًا شديدًا بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لاَم الاختصاص.
فلو قيل: الذين إذا صلوا خشعوا، فات هذا المعنى، وأيضًا لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلاّ بواسطة كلمة أخرى نحو: كانوا خاشعين.
وإلاّ يفتْ ما تدل عليه الجملة الاسميّة من ثبات الخشوع لهم ودوَامِهِ، أي كون الخشوع خُلقًا لهم بخلاف نحو: الذين خشعوا، فحصل الإيجاز، ولم يفت الإعجاز.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)}.
العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو:
إلى المَلِككِ القرْم وابننِ الهُمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

وتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم.
والقول في تركيب جملة {هم عن اللغو معرضون} كالقول في {هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2]، وكذلك تقديم {عن اللغو} على متعلقه.
وإعَادَةُ اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع.
واللغو: الكلام الباطل. وتقدم في قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} في البقرة (225)، وقوله: {لا يسمعون فيها لغوًا} في سورة مريم (62).
والإعراض: الصد أي عدم الإقبال على الشيء، من العُرض بضم العين وهو الجانب، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراضُ إعْرَاضَ السمع عن اللغو، وتقدم عند قوله: {فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء (63)، وقوله: {وإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام (68)، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فِيهِ لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وقال تعالى: {وإذا مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِرامًا} [الفرقان: 72].
ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة، أي أن يَلْغُوا في كلامهم.
وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصْل الدعاء، وهو من الأقوال الصالحة، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية، فكان الإعراض عن اللغو بمعنَيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور، وفي الحديث: «إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم».
والإعراض عن جنس اللغو من خُلق الجِدِّ ومن تخلق بالجد في شؤونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلاّ الأعمال النافعة، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ** سوى العَدل شيئًا فاستراح العواذل

والإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله.
واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير، فالإعراض عن لغوهم رَبْءٌ عن التسفل معهم.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)}.
أصل الزكاة أنها اسم مصدر زكَّى المشدّد، إذا طهَّرَ النفس من المذمات.
ثم أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازًا لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي. فأطلق اسم المُسَبَّب على السبب.
وأصله قوله تعالى: {خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، وأطلقت على نفس المال المنفَق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه بـ {فاعلون} المقتضي أن الزكاة مفعول. وأما المصدر فلا يكون مفعولًا به لفعل من مادة ف.ع.ل لأن صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني عن الإتيان بفعل مبْهم ونصببِ مصدره على المفعوليَّة به. فلو قال أحد: فعلت مشيًا، إذا أراد أن يقول: مَشَيْتُ، كان خارجًا عن تركيب العربية ولو كان مفيدًا، ولو قال أحد: فعلت ممَّا تريده، لصح التركيب قال تعالى: {مَن فعلَ هذا بآلهتنا} [الأنبياء: 59]، أي هذا المشاهَد من الكَسْر والحطم، أي هذا الحاصل بالمصدر. وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غَيْبَةِ فاعله. والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء، فهو كقوله: {ويؤتون الزكاة} [المائدة: 55] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة. وإنما أوثر هنا الاسم الأعمّ وهو {فاعلون} لأن مادة ف ع ل مشتهرة في إسداء المعروف، واشتق منها الفَعال بفتح الفاء، قال محمد بن بشير الخارجي:
إن تنفق المال أو تكلَفْ مساعيَه ** يَشْقُقْ عليك وتفعل دون ما فعلا

وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السَّنَة الأز ** مة والفاعلون للزكوات

أنشده في الكشاف.
وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلاّ من مصطلحات القرآن، فلعل البيت مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء.
قال ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب.
واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعيَّة وبالتأخير عن معموله.
وقال أبو مسلم والراغب: اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس.
ومعنى {فاعلون} فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول {فاعلون} بدلالة علته عليه.
وفي الكشاف أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي، أي إعطاء الزكاة وهو الذي يحسن أن يتعلق بـ {فاعلون} لأنه ما من مصدر إلاّ ويعبر عن معناه بمادة فَعَلَ فيقال للضارب: فَاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل.
وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلَّب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوّز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف، وكلا الاعتبارين غير ملتزَم.
وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعتَ آنفًا.
وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال.